الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي جلَّ عنِ الشبيهِ والنظيرِ، وأشهدُ أن لا إلَهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهد أنَّ مُحمداً عبدُهُ ورسولُهُ وصَفِيُّهُ وخَليلُهُ وخيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وأمينُهُ على وَحْيِهِ، أرسَلَهُ رَحمةً للعالمينَ، وحُجَّةً على العبادِ أجمعين؛ فهو أفضلُ من صلَّى وصامَ، ووَقَفَ بالمشاعِرِ وطافَ بالبيتِ الحرامِ، -صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليهِ وعلى آلهِ وصَحبِهِ ومن سارَ على نَهجهِ واقتَفَى أثَرَهُ واسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إلى يومِ الدِّين-
أمــــــــــــــــــا بعد:
أيُّها المؤمنون: لا شَكَّ إخـــوة الإسلام أنَّ الكلامَ في سِيَرِ الصالحينَ يَدفَعُ النَّفْسَ للطاعاتِ ويَنهاها عن الـمُخالَــفَاتْ، ولقد قَصَّ اللهُ تعالى علينا في كتابهِ من أخبارِ أنبيائِهِ ورُسُلِهِ ما فيهِ عِبرَةٌ وعِظَةٌ، ونحنُ اليومَ نَقِفُ على سيرَةِ سَيِّدِ شَبابِ أهلِ الجنة، نَتَعرَّفُ على ابنِ بِنتِ رسولِ اللهِ -ﷺ-.
نقفُ اليومَ مع الـحَسَنِ بنِ -عليٍّ رضيَ اللهُ عنهما-، وهو أوَّلُ أحْفادِ رسولِ اللهِ -ﷺ-، وُلِدَ بعدَ الهِجرةِ بِثلاثِ سِنينَ، وهو أشْبَهُ الناسِ برسولِ اللهِ ﷺ ، وكانَ أبوبكرٍ يَحمِلُ الحسنَ في صِغَرِهِ ويُلاعِبُهُ بيَدَيهِ ويقول:
بِأبيْ شَبِيهٌ بالنَّبيِّ**** لَيْسَ شَبيهاً بِعَلي
وكانَ عليٌّ -رضيَ اللهُ عنهُ- ينظرُ لهما ويَضحَك.
وكانَ النبيُّ -ﷺ- يُحِبُّ الحسَنَ والحُسينَ، وهو الذي سَمَّى الحسنَ بهذا الاسمِ ؛ كما روى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيحٍ عَنْ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ عنهُ-، قَالَ: لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، جَاءَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ-، فَقَالَ: "أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا قَالَ: "بَلْ هُوَ حَسَنٌ" فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا؛ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -ﷺ-؛ فَقَالَ: "أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ" قَالَ: قُلْتُ حَرْبًا قَالَ: "بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ".
وكانَ النبيُّ -ﷺ- يُحِبُّ الحسَنَ والحُسينَ ويقول: "هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا" (رواه الإمام البخاري).
والحسَنُ هو الذي كَمَّلَ اللهُ بهِ سنينَ الخِلافَةِ ؛ وذلكَ أنَّ النبيَّ -ﷺ- قالَ، كما عند أحمد والترمذي عَنْ سَفِينَةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ-: "الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ".
فكانت سِنينُ خِلافَةِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ -رَضِيَ اللهُ عنهم- مَجموعُها تِسْعٌ وَعِشرونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، وأثْناءَ خِلافَةِ عليٍّ -رضيَ اللهُ عنهُ-، كانَ حُكْمُهُ قَاصِراً على بَعضِ البلادِ كالحِجازِ والعِراقِ، وَكانَ مُعاوِيَةُ -رضيَ اللهُ عنهُ- يَحكُمُ الشَّامَ؛ فَلَمْ يَجتَمِعْ المسلمونَ على حاكِمٍ واحدٍ؛ فلمَّا اسْتُشْهِدَ عَلِيٌّ -رضيَ اللهُ عنهُ-، بَايَعَ الناسُ الـحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ -رضيَ اللهُ عنهُ-؛ فَمَكَثَ في الخِلافَةِ سِتَّةَ أشهرٍ، ثُمَّ تَنازَلَ بها لـِمُعاوِيَةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- جَمعاً لِكَلِمَةِ المسلمين.
وقد روى البخاريُّ أنَّ النبيَّ -ﷺ- قالَ عن الحسنِ بنِ عليٍّ: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ".
أيها الأحبة الكرام: عاشَ الحسنُ في صِغَرِهِ في كَنَفِ النبيِّ -ﷺ- حَتَّى تُوفِّيَ النبيُّ -ﷺ- والحسنُ عُمُرُهُ ثَمانُ سَنواتٍ، ومعَ ذلكَ رَوى الحسنُ عن رسولِ اللهِ -ﷺ- عَدَداً من الأحاديثِ؛ فَفي مُسندِ بَقِيِّ بنِ مَخلَدٍ ثَلاثَةَ عَشَرَ حديثاً، رواها الحسنُ عن النبيِّ -ﷺ-.
وفي مُسندِ أحمدَ بنِ حَنبل عَشرَةُ أحاديثَ، وروى أصحابُ السُّنَنِ أربعةَ أحاديثَ كُلَّها عن الحسنِ عن رسولِ اللهِ -ﷺ-؛ فانظُرْ كيفَ حَفِظَها وَوَعاها صَغيراً ثُمَّ رَواها كَبيراً، هذا يَدُلُّ على ذَكائِهِ وفِطنَتِه، بل إنَّ الحديثَ الذي يَدعو بِهِ الناسُ في وِتْرِهم، رواهُ الحسنُ بنُ عليٍّ عن رسولِ اللهِ -ﷺ- كما في مُسندِ الإمامِ أحمدَ بإسنادٍ صحيحٍ ورواهُ الترمذي وأبو داود أنَّ الحسَنَ قال: "يا رسولَ اللهِ عَلِّمْني دُعَاءً أدعُو بِهِ في صَلاتي، فقالَ لَهُ رسولُ اللهِ -ﷺ- قُلْ: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ".
أقولُ ما تَسمَعونَ وأستَغْفِرُ اللهَ الجليلَ العظيمَ لي ولكم من كُلِّ ذَنبٍ؛ فاستَغفِروهُ وتوبوا إليهِ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيم.
الخطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أنْ لا إلَه إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، -صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وخِلَّانه- ومن سار على نهجه واقتفى أثرَهُ واستَنَّ بسنته إلى يوم الدين أمــــــــــــــــــا بعد: :
أيها الإخوةُ الكرام: كان الحسن بن علي -رضي الله عنه- جواد كريم، قال مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: "رُبَّمَا أَجَازَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ بِمِائَةِ أَلْفٍ".
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: "سَمِعَ الحسن رجلاً إلى جانبه يَدْعُو اللَّهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ فَقَامَ إِلَى مَنْزِلِهِ؛ فَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ".
"وَذَكَرُوا أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى غُلَامًا أَسْوَدَ يَأْكُلُ مِنْ رَغِيفٍ لُقْمَةً وَيُطْعِمُ كَلْبًا هُنَاكَ لُقْمَةً، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِي مِنْهُ أَنْ آكُلَ وَلَا أُطْعِمَهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: لَا تَبْرَحْ مِنْ مَكَانِكَ حَتَّى آتِيَكَ، فَذَهَبَ إِلَى سَيِّدِهِ فَاشْتَرَاهُ وَاشْتَرَى الْحَائِطَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَأَعْتَقَهُ وَمَلَّكَهُ الْحَائِطَ، فَقَالَ الْغُلَامُ: يَا مَوْلَايَ قَدْ وَهَبْتُ الْحَائِطَ لِلَّذِي وَهَبَتْنِي لَهُ".
ومن عظيم فضائل الحسن -رضي الله عنه- ما رواه البخاري بسنده عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- "قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -ﷺ- فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ فَانْصَرَفْتُ فَقَالَ " أَيْنَ لُكَعُ –ثَلاَثًا- ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ؛ فَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ يَمْشِى؛ فَقَالَ النَّبِيُّ -ﷺ- بِيَدِهِ هَكَذَا؛ فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ، هَكَذَا فَالْتَزَمَهُ فَقَالَ "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ بَعْدَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- مَا قَالَ".
اللهمَّ وفِقنا لفعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحُبِّ المساكين، اللهمَّ اغفِرْ لنا ولآبائِنا وأمهاتِنا اللهمَّ من كانَ منهم حياً فمتِّعْهُ بالصحةِ على طاعتِك واخْتِمْ لنا ولَه بخير ومن كان منهم مَيِّتاً فَوَسِّعْ له في قَبْرِهِ وضاعِفْ له حسناتِه وتَجاوزْ عن سيئاتِه واجمعْنا بهِ في جنَّتِك يا رَبَّ العالمين اللهمَّ أصْلِحْ أحوالَ المسلمين في كُلِّ مكان.
اللهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الـمَهْمومين، ونَفِّسْ كَرْبَ الـمَكْروبين واقْضِ الدَّينَ عنِ الـمَدينين، واشْفِ مَرْضَى الـمـُسلِمين.
اللهمّ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا همّاً إلا فرّجْته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحةً رزقته، ولا ولداً عاقّاً إلا هديته وأصلحته يا ربَّ العالمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وللمسلمين أجمعين.