تطوافة في آفاق الإخلاص ( بقلم الأستاذ / محمد عبده )
كاتب الموضوع
رسالة
ابوحذيفة السلفى الاعضاء
عدد المساهمات : 342 نقاط : 1013 السٌّمعَة : 1 تاريخ التسجيل : 09/02/2014
موضوع: تطوافة في آفاق الإخلاص ( بقلم الأستاذ / محمد عبده ) الثلاثاء فبراير 11, 2014 12:39 am
تطوافة في آفاق الإخلاص ( بقلم / محمد عبده )
عملةٌ نادرةٌ قلّت في عالم المُريدين ، و قيمةٌ شاغرةٌ تبحث عن ممارسين مُجِيدين ، و خُلَّةٌ عزيزةٌ ربما أعزُّ من الكبريت الأحمر فلا تكاد تجدلها أهلاً ، و مفردةٌ تائهةٌ تُعاني انفصاماً و غُربةً فلا يُقال لها سهلا ، تلوكها الألسنة و تفتقدها القلوب ، يحسنها الناسُ تنظيراً ، و يركلونها تطبيقاً ، رغم أن السلامةَ في تمثُّلِها لا في تَوَقِّيها ، و في استحضارها لا في تمنِّيها ، كيف لا ؟! و هي شرط من شرطَيْ القَبول ، و مفتاح من مفاتيح الدخول ، و زورقٌ من زوارق الوصول ، إنْ سألت عن معناها ، تبارى في تعريفها المعرِّفون ، و تأنَّق في وصفها الواصفون ، فدبَّجوا لك الصفحات تنصيصاً و تأصيلاً ، و نقلاً و تحليلا ، و سِيَراً من الأولين ، و نُتفاً من الآخرين ، حتى لقد أوهموك بأنها بدهية ، و ربما جعلوها لك سجيةً فطرية ، فإذا تتبعتها في مَسَاربِ الحياةِ و طُرُقِها ، هَالَكَ أمرُها و أمرُهم !! و راعك اندثارُها و ادِّعاؤهم !! و افتقادها و خواؤهم !! فيا لله كيف يكون الانفصام ؟!! و كيف تكون الهُوَّةُ بين معسول الكلام و مرارة الأفعال ؟!! قالوا : أمرُها شاقٌ غير مُستطاع ، و قد علموا أن التكليف لا يكون إلا بما في الوسع و الإمكان ، بل جعلها الله من شرطيْ قَبول العمل ، لكنَّ صعوبتها في ميدانها ، و ميدانها حظ النفوس ، و ما أدراك ما حظ النفوس ؟!!! فأغلب الناس قد تمحوروا حول الذات ، و تشرنقوا حول الأنا ، و توحَّشت فيهم الشخصنة ، فمنها يصدِرُون و إليها يَرِدُون ، فاستفحل أمر النفوس و عظُم انتفاشها ، و استطال اعتزازها و بَعُد شأوها ، و انفلت خِطامهاو انعقدت شباكها ، فأنَّى لها الرجعة و هذا حالها؟!!! قيل لبعض السلف: "الحاج كثير" فقال: "الداج كثير، والحاج قليل" هذا .. يوم كان الناس ناساً !! فكيف اليوم ؟!! تلك قصة الإخلاص باختصار ، و للنفوس حِيَلٌ ماكرةٌ في اغتيالها ، و ألاعيب في انتحالها، فالرياء الفج مكشوف و مفضوح ، و العمل للناس لا تخطئه عينُ البصير الناقد ، لهذا كثيراً ما تتلفع النفس بالحِيَل ، و تتدثر وراء بخداع المُقَل ، فربما ذمّ المرءُ نفسه و أراد مدحها ، و ربما بالغ في الزهد و أراد الشهرة ، و ربما تواضع و أراد الرِّفعة ، و لست أتكلم هنا عن مُتملِّقٍ و لا مُتزلِّف ، و لا عن مراءٍ واضح الرِّياء ، مكشوفِ الغطاء ، لكنني أتكلم عن انحراف البوصلة اليسير في أهل الصلاح ، ومنه قول سفيان الثوري: "ما عالجت شيئاً أشدَّ عليّ من نيتي؛ إنها تتقلبُ عليّ" فهو في النهاية انحراف يُخشى عليه من حبوط العمل ، و زاوية الانحراف و لو كانت يسيرة ربما بالإهمال زاد انفراجها ، و استحال صوابها ، و كلماتي هنا دعوة للمرء كي يتحسس مواضع الأقدام ، فلربما زلّت قدمٌ بعد ثبوتها ، و دعوة لرصد حيل النفوس و تشخيص أدوائها ، و إليكم – أحبتي –بعض حيل النفوس التي تخرم الإخلاص و التي يسميها البعض بــ( خفايا الرياء ) التي لا يشعر بها غيرُ البصير :- 1-أولها: ما ذكره أبو حامد الغزالي في أحيائه حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي: "وأخفى من ذلك أن يختفي (العامل بالطاعة) بحيث لا يريد الاطلاع ولا يُسَرُّ بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناسَ أحب أن يبدؤوه بالسلام ، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها، ولو لم يفعل ذلك ما استبعد تقصير الناس في حقه" . 2-ثانيها: أن يجعل الإخلاص وسيلة لا غاية وقصداً لأحد المطالب الدنيوية "كالحكمة - كالكرامة - كالحوائج الدنيوية". و أضع أسطراً على قوله ( كالحوائج الدنيوية ) التي أُعطيها البعضُ رضي ، و إن مُنعها سخط !! 3-ثالثها: ما أشار إليه ابن رجب بقوله: "وها هنا نكتة دقيقة وهي أن يذم الإنسان نفسه بين الناس يريد بذلك أن يرى الناس أنه يتواضع عن نفسه ، ويرتفع بذلك عنهم ويمدحونها به، وهذا من دقائق أبواب الرياء ، وقد نبه السلف الصالح على ذلك" قال مُطَرِّف بن عبد الله ابن الشخير: "كفى بالنفس إطراءً أن تذمّها على الملأ ، كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه" 4-رابعها: ربما كره الرياء ، ولكنه عندما يتذكر أعماله ويُثنى عليه ، لم يقابل ذلك بالكراهية، بل يشعر بالسرور، ويشعر أنّ ذلك روَّح عنه شيئاً من عناء العبادة ، فهذا نوع دقيق من أنواع الشرك الخفي . -و أختم تطوافتي هذه بقول ابن القيم رحمه الله: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإنّ النيّة بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح ماتت، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح". أ.هـ وقال شيخ الإسلام: "والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسّط عمل القلب، فإن القلب ملكٌ، والأعضاء جنوده، فإذا خبث خبثت جنوده، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ في الجسد مضغة... الحديث . -ألا فليُتنبه لهذه الحيل لاسيما أهل القرآن الذين هم أهل الله و خاصته ، فهم مشاعل الضياء ، و عنوان الاقتداء ، و هم تراجم القرآن ، و تفاسير دفتيه بأخلاقهم و آدابهم .